قديماً، كان شعراء العرب يتنافسون على الساحة الأدبية من خلال تبادل قصائد يحكون فيها تجاربهم المختلفة. قد تتضمن هذه القصائد فخر الشاعر بنفسه وقبيلته أو هجاءً للمنافس وقبيلته، وأحياناً ما كانت تحكي عن خلافات بين القبائل، حيث كان كل شاعر يروي هذا الخلاف من وجهة نظر قبيلته. وعلى هذا النهج، سارت عدد من التجارب السينمائية، وإن كانت التجربة الأشهر هي ما حدث بين المخرجة المبدعة "صوفيا كوبولا" والمخرج العبقري "سبايك جونز".
صوفيا كوبولا هي ابنة المخرج الشهير فرانسيس كوبولا. بدأت حياتها المهنية كممثلة قبل أن تنتقل إلى الإخراج، وغلب على أفلامها مشاعر العزلة والاكتئاب، مع التركيز على الشخصيات النسائية ومشاكلهن المتعلقة بالحب والهوية. في عام 1999، تزوجت من المخرج "سبايك جونز". بدأ جونز حياته المهنية كمخرج للفيديوهات الموسيقية، ثم بدأ إخراج الأفلام الروائية الطويلة، وتشابه أسلوبه مع أسلوب زوجته في توصيل مشاعر إنسانية معقدة.
في سبتمبر من عام 2003، أصدرت "صوفيا كوبولا" فيلمها Lost in Translation. تدور قصة الفيلم حول "بوب هاريس"، ممثل أمريكي يمر بأزمة منتصف العمر ويعاني من الوحدة بسبب برود المشاعر بينه وبين زوجته. بداخله الكثير من المشاعر، لكنه يجهل كيف يعبر عنها. يسافر بوب إلى طوكيو في رحلة عمل ليلتقي بـ "شارلوت"، وهي شابة متزوجة حديثًا وتعاني من إهمال زوجها، وتعاني أيضًا من مشكلة في التعبير عن مشاعرها. يجد كلاهما ما ينقصه لدى الآخر.
حقق الفيلم نجاحًا واسعًا سواء على المستوى النقدي أو الجماهيري. فقد حصل على أربع ترشيحات لجائزة الأوسكار وفاز بواحدة منها وهي جائزة "أفضل سيناريو أصلي". الفيلم عبر بهدوء شديد عن أعقد المشاعر الإنسانية، وهي عدم القدرة على التواصل. استطاع الفيلم أن يلمس قلوب كل من شاهده. أعتقد أن السبب في ذلك هو صدق المشاعر التي أرادت المخرجة إيصالها. كان الفيلم بمثابة مرآة لحياتها مع زوجها المخرج "سبايك جونز"، وربما كانت تلومه على إهمالها، لذلك جاء الانفصال بعد ثلاثة أشهر فقط من إصدار الفيلم. رغم إنكار صوفيا أن شخصية زوج شارلوت "جون" تعكس "جونز"، إلا أنها قالت إنه يشبهه في بعض الصفات.
بعد مرور عشر سنوات، أتى المخرج "سبايك جونز" بتحفته الفنية "Her"، الذي يعتبر رداً على فيلم زوجته "Lost in Translation"، أو ربما ليس رداً، وإنما تناول القصة من وجهة نظره. حدثنا عن الفترة التي قضاها بعد انفصالهما. فقد تناول فيلمه قصة "ثيودور"، وهو كاتب رسائل ورقية يعبر فيها عن مشاعر أشخاص آخرين عجزوا عن التعبير عن مشاعرهم. وعلى الرغم من أن "ثيودور" هو من يعبر عن تلك المشاعر، إلا أنه عاجز عن التعبير عن مشاعره الشخصية. هذا ما دفعه للانفصال عن زوجته. نعيش معه الفترة التي تلت انفصاله عنها واضطراب مشاعره، ليجد نفسه في قصة حب مع نظام ذكاء اصطناعي.
حقق الفيلم نجاحاً واسعاً وترشح لأربعة جوائز أوسكار وفاز بنفس الجائزة، وهي "أفضل سيناريو أصلي". وكما عبرت صوفيا عن مشاعرها في "Lost in Translation"، جاء رد "جونز"، فلم يبرئ نفسه من مسؤولية الطلاق. الاعتراف جاء في هذا المشهد حين قال:
"أظنني أخفيت نفسي في حضورها... تركتها تتخبط وحدها في صعاب علاقتنا."
كان "جونز" معترفًا بخطئه، وأنه السبب في هذا الخطأ في الترجمة، أو ربما كان خطأ في التواصل. لكنه برر ذلك بأنه لم يجد من يفهمه. فقد اتفق مع زوجته أنها كانت بحاجة لشخص يهتم بها ولم تجده، لكنه أيضًا كان بحاجة لشخص يفهمه. كان بحاجة إليها، لكنه لم يقل ذلك. ربما ماطل في إجراءات الطلاق، تمامًا كما فعل "ثيودور"، لكنه في النهاية عاش وحيدًا.
كلاهما تناول القصة ذاتها تقريباً، كلاهما أراد توصيل نفس المعاني. اتفقا في العديد من النقاط، لكن في النهاية كان لكل منهما وجهة نظره. ربما كان هذا سبب الانفصال، لكن في النهاية مضى كل منهما في طريقه.
حاليًا، تعمل "صوفيا كوبولا" على فيلم "Priscilla"، الذي يركز على حياة "بريسيلا بريسلي"، استناداً إلى مذكراتها Elvis and Me. يستكشف الفيلم العلاقة بين "بريسيلا" و"إلفيس بريسلي" من منظورها، فهي كعادتها تركز على المنظور النسائي للقصة.
أما بالنسبة لـ "سبايك جونز"، فهو معروف بأنه يأخذ وقته بين مشاريعه السينمائية، ويفضل الانتقال إلى مجالات إبداعية أخرى مثل إخراج الفيديوهات الموسيقية. وعلى الرغم من عدم وجود مشاريع أفلام حديثة لـ "جونز"، إلا أن تأثيره يستمر في عالم السينما، مثل تأثير آخر أفلامه Her.
في النهاية، أرى أن نجاح الفيلمين جاء من صدق المشاعر المقدمة. فكثير منا رأى شخصًا يعرفه أو رأى نفسه في شخصيات هذه الأفلام. وهنا يكمن الإبداع؛ فكلما كانت السينما صادقة فيما تقدمه، كلما عاشت في عقول المشاهدين.