في عام
1895، عُرض فيلم "الخروج من مصنع لوميير" الذي يُعتبر البداية الفعلية
للسينما في العالم. ومنذ ذلك الحين، عُرضت الملايين من الأفلام، منها ما حظي
باهتمام الجمهور وحُفِر في الأذهان، ومنها ما كان مصيره النسيان ولم يستطع
المشاهدون حتى استكماله. فما الذي يصنع ذلك الفارق؟ ما الذي يجعل شخصًا يجلس على
بعد صف أو اثنين من كرسيك في قاعة السينما يصفق في نهاية العرض؟
من
وجهة نظري المتواضعة، يكمن السر في فكرة الفيلم. فالفكرة هي الأساس ونقطة البداية
التي يُبنى عليها العمل. قد تكون الفكرة التي يريد المؤلف تناولها والتعبير عنها
نابعة من خبرة حياتية قد مر بها، أو من اطلاعه على تاريخ حضارات مختلفة. فعلى عكس
ما يعتقده البعض، الأفكار لا تهبط من السماء على رأس الكاتب، لكن الحقيقة أن
الكاتب يتعرض لمواقف حياتية مشابهة تمامًا لما نتعرض له جميعًا في حياتنا اليومية،
لكن مع اختلاف استقباله لهذه المواقف واختلاف طريقة تناوله لها. فكلما زاد ثقل
الفكرة، زاد عمق القصة والتفاصيل الموجودة فيها.
في بعض
الأحيان، تفرض الفكرة نفسها على المؤلف حين يتناول موضوعاً يهم الجمهور ويعبر عنه
عبر قصة يسهل متابعتها. من الأفضل أن يناقش العمل فكرة واحدة تدور حولها أحداث
الفيلم، أو يتناول مجموعة من الأفكار الفرعية التي تدور حول فكرة واحدة رئيسة، حتى
لا يشعر الجمهور بالتشتت أو يجد صعوبة في فهم فكرة الفيلم. ثم بعد أن تُبنى القصة،
يبدأ التفكير في الحبكة، وهي ما أعتقد بأنها العنصر الفارق بين نمط السرد التقليدي
والسرد المميز للأحداث. الحبكة هي ما تجعل الجمهور في حالة ترقب مستمر لكل حدث من
أحداث القصة. يقول المخرج الفرنسي جان لوك غودار، "الفيلم هو الحقيقة 24 مرة
في الثانية." فالسينما تعكس الواقع وتعبر عن الأحداث والمشاعر والتجارب
بطريقة مكثفة ومُحسّنة.
وبعد
اجتياز تحدي خلق تلك القصة المحبوكة التي يتسع لها بؤبؤ العين، ويقشعر لها البدن،
يأتي التحدي الجديد وهو ترجمة أحداث القصة المحبوكة إلى سيناريو، وهو المستند الذي
يفترض به أن يترجم كل ما نريد أن نراه على الشاشة بالتفصيل الممل. وكما قال ألفريد
هتشكوك، "أهم ثلاثة عناصر لعمل فيلم ناجح هي السيناريو ثم السيناريو ثم
السيناريو"، ليؤكد على أهمية تلك المحطة في بناء فيلم ناجح. السيناريو يُعتبر
الوعاء الكبير الذي يحمل أصغر تفاصيل ما نريد مشاهدته على الشاشة.
كلما
زاد عمق الفكرة المترجمة إلى قصة محبوكة نتج عنها سيناريو جيد، كلما زاد إعجاب
الجمهور بالفيلم دون أن يشعر. فلو نظرنا إلى فيلم تايتانيك مثلاً، الذي حصد كل
الجوائز التي يمكن لأي فيلم الحصول عليها، الفيلم الذي اتفق عليه الجماهير والنقاد
على حد سواء. يرى المشاهد فيلم تايتانيك على أنه فيلم يحكي قصة تاريخية تحمل في
طياتها روميو وجولييت العصر الحديث. حيث يأخذنا الفيلم في تفاصيل دقيقة للحادثة
التي أصابت السفينة والتي يفترض بأنها "لا تقهر" ثم يصف لحظات غرقها
بشكل يحبس الأنفاس.
كلما
زاد عمق الفكرة المترجمة إلى قصة محبوكة نتج عنها سيناريو جيد، كلما زاد إعجاب
الجمهور بالفيلم دون أن يشعر. فلو نظرنا إلى فيلم تيتانيك، مثلًا، الذي حصد كل
الجوائز التي يمكن لأي فيلم الحصول عليها، نجد أنه الفيلم الذي اتفق عليه الجماهير
والنقاد على حد سواء. على الرغم من أن الفيلم يحكي قصة حقيقية، إلا أن جيمس
كاميرون استخدمها لتوصيل فكره السينمائي، وقام بصياغة هذا الفكر في أدق تفاصيل
الفيلم وقدم من خلاله تجربة أشبه بالواقع، برع فيها في تقديم ردود أفعال مختلفة
لحادث الغرق، وقدم من خلالها مستويات متنوعة من مشاعر الخوف والهلع وتقبل فكرة
الموت.
فيلم
تيتانيك يشبه جبل الثلج؛ تكمن قوته في الرسائل الخفية تحت القصة الرئيسية التي
يراها المشاهد على أنها قصة تاريخية تحمل في طياتها روميو وجولييت العصر الحديث.
حيث يأخذنا الفيلم في تفاصيل دقيقة للحادثة التي أصابت السفينة، والتي يفترض بأنها
"لا تقهر"، ثم يصف لحظات غرقها بشكل يحبس الأنفاس. لكن عندما نتحدث عن
العمق الذي يحمله هذا الفيلم، نرى أن الرمزيات تحمل بعدًا مختلفاً. السفينة،
مثلًا، تعبر عن المجتمع الأوروبي الرأسمالي القديم القائم على الطبقية وتهميش
المرأة والفقراء اما الأدوار تعبر عن طبقات المجتمع و ماتحمله من اختلافات. الرحلة
كانت رحلة الحياة إلى أرض الحرية والمساواة، للوصول إلى بيئة قائمة على المساواة،
كان يجب أن يغرق المجتمع القديم، أو ربما أغرقته أفكاره. أما الناجون من هذا
المجتمع، فلم ينجوا بقوارب نجاة أو على ظهر خشب، إنما نجوا بأفكارهم. نجد أن البطلة
كانت تعيسة رغم انتمائها لطبقة غنية ذات جاه وسلطة، إلا أن كل هذا لم يجعلها
سعيدة، ببساطة لأن هذا المجتمع سلبها حقوقها وجعلها أسيرة رأس المال المتمثل في
خطيبها. لكن لأن روز لا تنتمي لهذا المجتمع، فقد نجت وعبرت إلى مجتمع طبيعي يؤمن
بالمساواه و الحياة الكريمة للجميع. جاء هذا التحول عن طريق شخصية جاك، فعلى الرغم
من انتمائه للطبقة الثالثة من المجتمع، إلا أنه كان أكثر سعادة وحرية.
لهذا
جاءت النهاية المنطقية بغرق هذا المجتمع بكل ما يحمله من طبقية وغرور. وحينما
تتبدل الأمور وتبدأ السفينة بالغرق، اختلطت كل الطبقات واتفق الكل على هدف واحد
وهو النجاة. أصبحت قطعة الخشب الطافية هي العملة الأكثر ندرة، ومن يمتلكها هو
الأغنى. لخص المخرج السويدي إنغمار بيرغمان ذلك بقوله: "السينما هي وسيلة
لتحقيق الحلم." وهنا نرى كيف تمزج السينما بين الحقيقة والخيال لتصل إلى قلوب
وعقول الناس.
كل تلك
الرمزيات كانت مضمنة بين تفاصيل الحدث التاريخي للسفينة والقصة الرومانسية بين جاك
وروز، ولم يشعر بتلك الرمزيات الكثير من المشاهدين، ولكنه وصل إلى أعماقهم دون أن
يشعروا. مما جعل هذا الفيلم المصنوع من خلال عناصر نسجت بدقة متناهية، ابتداءً من
فكرة عميقة ثم قصة محبوكة فسيناريو مدروس، فيلماً تاريخياً لن ننساه أبداً. يقول
أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، المخرج المكسيكي: "الفيلم هو اللغة التي يمكن
للجميع فهمها." هذه اللغة السينمائية تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، مما
يضيف قيمة أكبر لفكرة الفيلم ودورها في التأثير على الجمهور. ويقول المخرج المصري
الكبير يوسف شاهين: "الفيلم هو فن يجسد الخيال ويجعلنا نرى العالم من زاوية
مختلفة." وهذا ما يجعل السينما أداة قوية للتغيير والإلهام.
في
النهاية، يمكننا أن نرى أن الفيلم الناجح هو نتاج فكرة عميقة، قصة محبوكة، سيناريو
متقن، وعناصر مترابطة بعناية. كلما زادت جودة هذه العناصر، زاد تأثير الفيلم على
الجمهور، مما يجعله تجربة لا تُنسى.