تحدثت في المقال السابق عن أهمية الفكرة في عملية صناعة الفيلم، وتحدثت عن أول فيلم في التاريخ وهو "الخروج من مصنع لوميير"، لكن ماذا لو أخبرتك عن فيلم صُنِع بلا سيناريو!
منذ قرن من الزمن، وفي عام 1902م تحديداً، قدم المخرج الفرنسي جورج ميليه فيلمه الأول "رحلة إلى القمر"، والذي تم تصويره بناءً على ثلاثين سطراً مكتوبة تشرح وتنظم مراحل التصوير والمؤثرات التي سيستخدمها. ميليه كان ساحرًا في المسرح قبل دخوله عالم السينما، وهذا ما أثر على أسلوبه في صناعة الأفلام. فكان يريد تقديم تجربة سينمائية ساحرة، فقام بإضافة العديد من الخدع البصرية، وكان يهتم بأدق التفاصيل كعادة كل ساحر يقوم بالتحضير لخدعته السحرية التي سيقدمها قبل الصعود إلى المسرح. فكتب فكرة عامة، ثم صاغها في عدة مشاهد لتوجيه عملية التصوير.
وكانت هذه المعجزة قد أعطت الضوء الأخضر لتغيير الصناعة، وأبرزت أهمية كتابة النصوص قبل بدء التصوير. لأن الإنتاجات السينمائية التي خرجت لنا في السنوات الخمس السابقة لفيلم ميليه كانت كلها تشبه الأفلام الوثائقية القصيرة، حيث نستعرض حدثًا بسيطًا في مجموعة صور متتالية، فكان فيلم "الخروج من مصنع لوميير" مجرد تصوير لبعض العمال أثناء خروجهم من المصنع. وكان هذا هو الحال لكل إنتاجات تلك الفترة، فكانت السينما بمثابة اختراع لا يعرف أحد كيف يحسن استخدامه. لذا كتب ميليه البداية الحقيقية للصناعة بما فعله، وأرسى القواعد الأولى لرسم خارطة الطريق لمرحلة التصوير قبل البدء بها، وعدم ترك شيء للصدفة أو الارتجال، فلم يعد الأمر مجرد ضغطة زر.
وبعد عام واحد من معجزته، جاءنا المخرج إدوين بورتر بمعجزة جديدة، حيث أصبح لدى المخرج نص مكتوب لوصف فيلمه بالكامل، وهو ما يوازي ما يعرف اليوم بالسرد البصري. ومن هنا، لم يعد السيناريو يحتوي فقط على سطر واحد عن كل مشهد سيصور، ولكن أيضًا مع حساب عدد قطعات المونتاج وتكوين المشهد وسير الحبكة ومواقع التصوير وزمنه، والمعدات وحركة الممثلين، واستخدام المونتاج الموازي لأول مرة بتاريخ السينما في فيلمه "سرقة القطار الكبرى" الذي كان تمهيدا للحدث أكبر والذي جاء على يد المخرج الأمريكي ديفيد وورك غريفيث.
كانت السينما تتحسس طريقها نحو التطور وبدأ إنتاج الأفلام الطويلة، لكن لم تتجاوز مدة عرض هذه الأفلام الستين دقيقة، حتى جاء غريفيث بفيلمه " مولد أمة " عام 1915 الذي تجاوزت مدة عرضه الثلاث ساعات. واجه غريفيث العديد من التحديات، أهمها الحفاظ على ترابط القصة، وكانت كلمة السر لحل هذا التحدي هي المونتاج المتوازي. فقد مكنه من سرد أكثر من حدث بشكل متزامن مع التنقل بين الخطوط الدرامية لكل قصة، مما يزيد من تعقيد وثراء القصة. هذا ما مكنه من تقديم وجبة سينمائية دسمة تتيح للمشاهد التفاعل مع الشخصيات والأحداث. وعلى الرغم من الانتقادات التي تعرض لها الفيلم، إلا أنه لقى صدى واسعًا لدى الجمهور، مما ساعد على انتشار التقنيات التي قدمها، مثل استخدامه اللقطات القريبة والمتوسطة والبعيدة لخلق تأثيرات درامية ولتعزيز تفاعل الجمهور مع الشخصيات والأحداث. ربما لم يكن غريفيث مبتكر هذه التقنيات، لكنه برع في استخدامها ووضع أسسًا وقواعد سار عليها الصناع من بعده.
في هذه الفترة، ظهرت العديد من الاستوديوهات في هوليوود والتي ساهمت في بناء شكل الصناعة والسيناريو الأمريكي الذي نعرفه اليوم. فقد تحولت كتابة السيناريو إلى مهنة، ولكل استوديو فريق من الكتاب والمؤلفين يعمل داخل مقرات الاستوديو في مواعيد محددة. وكان الهدف من ذلك هو إنهاء كتابة العديد من الأفلام في آنٍ واحد، على أن تتم عملية الإنتاج بالتوازي. وبعد استقرار النظام وبدأ بتحقيق الأرباح، تغيرت الخارطة بأكملها مرة أخرى وأنشأت استوديوهات هوليوود شبكات التوزيع الأجنبية الخاصة بها، ليعد ذلك إعلانًا رسميًا من الدولة والمنتجين أن هوليوود عاصمة ومقر الإنتاج السينمائي عالمياً.
فكانت حقبة العشرينيات ذروة الإنتاج السينمائي، ليس فقط في هوليوود، بل بدأت العديد من الدول تعبر عن هويتها من خلال السينما. وأرادت كل دولة أن تقدم سينما تعبر عنها وتخدم أهدافها، مثل المدرسة الروسية التي عُرفت بالسينما الشيوعية، إذ كانت تستخدم للترويج للآيديولوجية الشيوعية. كذلك ظهرت السينما المصرية لتعكس ثقافة هذا المجتمع. كما تم إرساء القواعد الأولى للمدرسة الواقعية الشعرية الفرنسية، التي سارت في نهج معاكس لهوليوود؛ فلم يكن هدفها الربح، إنما كان اهتمامها تقديم الفن في المقام الأول. كل هذا كان تمهيدًا للحدث الذي سيغير شكل السينما.
كل ما ذكرته أعلاه ، وكل الأفلام قبل عام 1927 كانت عبارة عن صور متتالية ولوحات عليها وصف الحدث ، لم يكن هناك من ينطق أو من يتحدث مع رفيقه في المشهد ، لم يكن هناك تقنيات السيناريو التي نعرفها اليوم كالحوار والهيكل الثلاثي، والعالم يتطور وصناعة السينما لم تعد رفاهية بل مطلباً جماهيري يتزايد كل يوم، وبدون الحوار لا شيء كافياً ، ومع صدور الفيلم الناطق الأول "مغني الجاز" أصبح الجميع في مأزق وخاصةً المؤلفين, و أجبرهم على كتابة الحوارات كاملةً لكي تصبح منطوقة، بالإضافة لأنه فتح الباب على مصراعيه للسينما الغنائية ، فأجبر المؤلفين أيضاً علي معاونة مؤلفي الأغاني لإنهاء أفلامهم وكتابتها ، وبين ليلة وضحاها ، تحولوا من كتاب للأحداث ، لكتاب أحداث وحركة و حوار وأغاني و اصبح هذا إطار عام للعمل داخل أسوار هوليوود، ومن بعدها جاء العديد من المبدعين الذين ساهموا في رفع المستوى مجددًا ، مثل المبدع الإنجليزي ألفريد هيتشكوك الذي رفع شأن السيناريو الأمريكي كثيرًا.
لأنه أضاف مفهوم "الماكغافين"، وهو مصطلح سينمائي شهير يستخدم لوصف عنصر أو كائن في القصة يدفع الحبكة للأمام، ولكنه في النهاية يكون غير مهم بالنسبة للجمهور. يُستخدم لجذب انتباه الشخصيات وتحفيزها على اتخاذ إجراءات معينة، مما يؤدي إلى تطور الأحداث. ويمكن أن يكون الماكغافين شيئًا ملموسًا مثل المال المسروق في فيلم "سايكو"، أو مجردًا مثل الهوية الوهمية لشخص غير موجود يُعرف باسم "جورج كابلان" في فيلم "شمالًا عبر الشمال الغربي". ظل السيناريو في تطور مستمر حتى أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، وجاءت الحرب العالمية الثانية، وأصابت صناعة السينما بطلقة مدوية جعلتها أسيرة للحرب.
الحرب العالمية ساهمت في قلة الإنتاج الأمريكي بشدة واسندت مهمة أخرى للمؤلفين والمخرجين ، حيث كان عليهم دعم البيت الأبيض والجيش ودفع الجمهور للانضمام للقوات العسكرية طوال مدة الحرب دون أي تطوير يذكر مما هدد بقاء هوليود على القمة و بينما كانت أمريكا منهمكة في الحرب بدأت أوروبا تسحب العرش من تحت أقدام هوليوود و خصوصا السينما الفرنسية فبعد انتهاء الحرب قدمت المدرسة الفرنسية جيل جديد من صانعي الأفلام أبرزهم جان لوك غودار، و فرانسوا تروفو، و جاك ريفيت و كانوا مؤمنين أن أوروبا لم تكن يوماً ندا أو موالياً لتلك الموجة الجماهيرية ونظام الاستوديوهات واستشهدوا على ذلك بمستوى السينما أوروبية في العشرينات وما قبلها من خلال مختلف مدارسها ، والتي أظهرت اهتمام الأوروبيين بالأدب على عكس الفكر الأمريكي الرأسمالي وهذا هو المفتاح ، فظل هؤلاء الثلاثة يدرسون الأمر من بدايته ويعملون على تطويره لنصرة أفكارهم الأوروبية الفريدة ونصرة بلادهم حتى وصلوا للمرحلة الجديدة من السينما والتي تدعي "سينما المؤلف" في بداية الخمسينات.
فبينما يركز العملاق الأمريكي على الربح والعامل التجاري في المقام الأول ، جاء النقيض الفرنسي ،حيث يركز نمط سينما المؤلف على العامل الجمالي والتعبير عن الذات ورؤية القصص والقضايا من منظور المخرج ، أي إنه نمط يتحول فيه الفيلم إلى رواية والمخرج إلى مؤلف وسرعان ما انتشرت تلك الموجة الفرنسية الجديدة في ارجاء اوروبا في الخمسينيات والستينيات، وأحدثت تغيير ثوري في الصناعة وأجبرت الأفلام على الخروج من الأستوديوهات إلى الشارع لتحقيق قدر أكبر من الواقعية الملائمة لفلسفة وأفكار المدرسة، وهنا لم نعد نحتاج للإنتاج الضخم لأننا لم نعد بحاجة لبناء مواقع التصوير كاملةً ، فنحن نعد اللقطات في أماكن حية كتبت في الورق، بالإضافة لعدم توفر القدرات الإنتاجية الضخمة التي يملكها منافسنا الأول في الأساس، وسرعان ما انتشرت المدرسة الجديدة حتى أن الولايات المتحدة قد تبنتها في بعض الأوقات نظراً لكونها تساعد على تقليل حجم الإنتاج، ولكن لكل شيء في الدنيا ايجابيات وسلبيات.
المدرسة الجديدة تنص على أن الفيلم مجرد قلم في يد المخرج يفعل به ما يحلو له ويراه ملائمًا لفلسفته، ولا يخضع لمعايير تجارية أو فنية صارمة. وهنا انقسم الشارع الأوروبي إلى جهتين: جهة من المخرجين الذين يسعون للتطوير من أنفسهم والتمكن أكثر من أساليب وتقنيات السيناريو للحفاظ على وظيفة المخرج المؤلف التي تمنحها لهم المدرسة الجديدة، لأن هذا الجزء كان يرى أنه إذا قام المخرج بكتابة العمل، فيجب عليه أن يصبح كاتب سيناريو محترف متعلم بالفعل ليحل محل الكتاب. بالمناسبة، بعض المصادر تقول إن هنا قد نشأ نموذج السيناريو الفرنسي الذي نعرفه اليوم، والذي يحتوي على تفاصيل أكثر دقة ومساحة الوصف السردي فيه أكبر من المساحة التي يتخذها في أوراق السيناريو الأمريكي. أما الجهة الأخرى، فترى العكس تمامًا، فقد استغنت عن السيناريو بشكل كامل وأطلقت العنان لخيالها في الأفلام مهما كان طابعها، مبررين ذلك بأن ما ينفذونه هو المعنى الحقيقي للثورة السينمائية الفرنسية. والمفاجأة أن أول من استغنى عن السيناريو في تلك المرحلة هم الثلاثة الفرنسيين رواد المدرسة الذين ذكرتهم.
كان هذا الشقاق قد عطّل تطور السيناريو بشكل كبير، حيث لم تكن جهود الصناع موجهة في اتجاه واحد حتى جاءت المرحلة الأهم في تطوير السيناريو، التي بدأت عام 1979. في هذه الفترة، قدم سيد فيلد كتابه " السيناريو "، الذي وضع إطارًا عامًا وهيكلًا للسيناريو. بالتزامن مع عمل فيلد، قدم جوزيف كامبل دراسة لعدد كبير من الأساطير والقصص القديمة من ثقافات مختلفة في كتابه " البطل ذو الألف وجه ". ووجد كامبل أن هناك نمطًا مشتركًا يتكرر في قصص الأبطال عبر الزمان والمكان، وسمى هذا النمط " المونوميث " أو " رحلة البطل ". وقد اتبع هذا النمط معظم الصناع في بناء الشخصيات والقصص.
في نفس المرحلة، ظهرت المعالجة المعروفة حاليًا، والتي تعد صيغة متطورة من الملخص. وهي وثيقة طويلة نسبيًا، قد تصل إلى عشرين صفحة أو أكثر في الأفلام الطويلة. في وثيقة المعالجة، يتم تطوير القصة بكليتها، وهي تقترب إلى حد ما من صيغة الرواية، حيث تصف الفيلم بكليته مشهدًا تلو الآخر، ولكن دون تقطيع متسلسل في هذه المرحلة. لذا، فإن هذه الوثيقة لا تتضمن أية حوارات. المعالجة تُعتبر تطورًا طبيعيًا للسيناريو الأول، ولكن تاريخ تطورها غير معروف.
ولكن بالنسبة للمبدع سيد فيلد أو جوزيف كامبل فالكلام يطول، ولد سيد فيلد في هوليوود كاليفورنيا في عام 1935، وولعه وشغفه بالأفلام وبكتابتها بالأخص، درس الكتابات الفنية في جامعة جنوب كاليفورنيا، وبعد حصوله على الماجستير أصبح دكتور جامعي متخصص في السيناريو، كامل شغفه هو إيجاد الإجابة المثالية على أهم ثلاثة أسئلة خاصة بالسيناريو وهم، أين ومتى وكيف؟ ووجد أن الإجابة تكمن في قصة وسيناريو محكم منذ البداية حتى النهاية، ولوجود سيناريو محكم يجب أن يكون هناك هيكل نموذجي، وبعد البحث والتفكير جاءنا بأول نص موثق تفصيلي لما يعرف بالفصول الثلاثة الكلاسيكية أو الهيكل الثلاثي الأصلي للأفلام، والذي يتكون من فصل البداية أو الإعداد، ثم يمر بالصراع، ثم ينتهي بفصل الحل، تقريباً مثلما رأي وكتب نظيره جوزيف مفهوم "رحلة البطل" في كتابه، ولكنه كتب الأمر على 17 مرحلة وليس ثلاثة فصول، ولكنها نفس المفهوم بصياغة مختلفة وأقل عصرية.
في الفصل الأول يتم بناء الحبكة والشخصيات والمكان، ويختتم بإدخال نقطة صراع رئيسية، وفي الفصل الثاني يتعامل بطل الرواية مع نقطة صراع رئيسية في منتصف الطريق ويصل إلى نقطة اللاعودة أو ما يعرف بنقطة المنتصف، ويضطر إلى مواجهة خصمه وجهاً لوجه، والفصل الثالث هو المكان الذي يتم فيه حل النزاع حيث تُجبر الشخصيات على التفكير مرة أخرى في موضوعات القصة والإجابة على الأسئلة الحرجة حول نجاحهم أو فشلهم.
كما أوضح أيضاً أنه لكي تكون القصة ناجحة، يجب أن يكون لديها ما يسمى "الحاجة الدرامية"، وهي في الأساس ما تريده الشخصية، ويجب أن تكون شيئًا نتعاطف معه أو تتفاعل معه حسياً، فمثلا عندما تكون الحاجة الدرامية للشخصية هي الرذيلة، مثل السلطة أو السيطرة، فإننا عادة ما نعتبرها شريرة. عندما تكون الحاجة الدرامية للشخصية إنسانية، مثل الشرف أو الإنصاف، فإننا عادة ما نعتبرها بطولية. في كثير من الأحيان، أفضل الشخصيات لديها احتياجات درامية ليست سوداء أو بيضاء.
كما أوضح أيضاً أن نقطة التحول الأولى يجب أن تحدث في حوالي الصفحة 25-30 من السيناريو، وأن نقطة التحول الثانية يجب أن تكون في حوالي الصفحة 85-90. هذا التوجيه ساعد الكتاب على الحفاظ على إيقاع القصة وضمان تطورها بشكل طبيعي، وأضاف مفهوم "الحادث المحرض" وهو الحدث الذي يغير الحياة اليومية للبطل ويدفعه إلى مغامرة القصة. هذا الحادث يحدث عادةً في بداية القصة ويجذب انتباه الجمهور كما قدم فيلد العديد من ورش العمل والمحاضرات التي كانت تركز على تعليم كتابة السيناريو وفقًا لنظرياته ومنهجه وكان له تأثير كبير على العديد من الكتاب في صناعة السينما.
ختاماً ، بعد سيد فيلد ظهر الكثير من المطورين والفنانين والأعمال الأيقونية والحقب الذهبية مثل التسعينيات الأمريكية الشهيرة، وبسيناريوهات مثل مصحة شاوشانك، والذي يعد أشهر إلتوائة درامية في التاريخ، أو خيال مريض لتارنتينو والحوارات المتدفقة الخلابة، و نادي القتال والغوص في صراعات النفس التي يعيشها المواطن المتوسط في العديد من المدن الضخمة والعواصم وما يترتب عليها، ولكننا نكتفي بمناقشة التاريخ الكلاسيكي للسيناريو، ويمكن القول أن ما ناقشنا هو هيكل السيناريو الكبير ولكن ما دون ذلك هو تكملة له لا توازي ضخامة تأثيره، ربما أكون مخطئاً، ولكن هذه هي وجهة نظري الشخصية.