image

المقال الرابع | السينما والسياسية | نبض السينما | هتان الدوسري

22 Sep , 2424 Hatan

قديماً في بلاد الإغريق، ظهرت جماعة من المحامين تُدعى السفسطائيين، كانوا يُبطلون الحق ويحقّون الباطل، فكان في أيديهم اختيار البطل والأشرار لكل قصة، تماماً كما يحدث في الأفلام الحربية. فدومًا البطل الأمريكي يحارب لأجل أسباب نبيلة وينتصر في النهاية ليعود ويجد حبيبته تنتظره في محطة القطار، على عكس أعدائه الأوروبيين، الذين يصوَّرون دائمًا في دور الشرير من القصة، والعكس صحيح في السينما الأوروبية. فكما كانوا خصومًا في ساحة الحرب، كانوا أيضًا خلف عدسات الكاميرا أثناء الحرب الباردة.

منذ ظهور السينما وهناك صراع بين شركات الإنتاج الأوروبية ونظيرتها الأمريكية. فبداية ظهور الاستوديوهات كانت في هوليوود، وكانت هي عاصمة الإنتاج العالمي، لكن السينما الأوروبية كانت تعمل في صمت وظهر تفوقها في عدة جوانب مثل الابتكارات التكنولوجية في العرض، وعمليات الألوان، وابتكارات المحتوى مثل الجريدة السينمائية الأسبوعية، والكرتون، والمسلسل، والفيلم الطويل. وفي هدوء تام، ذهبت الشركات الأوروبية بعيدًا بأفلامها وصولًا للسوق الأمريكي، وبلغت حصة هذه الشركات في السوق الأمريكية 60%. ولتأكيد شركات الإنتاج الفرنسية على هيمنتها، لم تقم فقط بإنشاء فروع للإنتاج والتوزيع الأجنبية في الدول الأوروبية، إنما ذهبت للولايات المتحدة في عقر دارها لتسيطر بذلك على توزيع الأفلام الدولية قبل منتصف عام 1910.

لكن منذ بداية عام 1914، غابت أوروبا عن هذا الصراع، فقد توقف الإنتاج الأوروبي بشكل كامل، وكان السبب في ذلك هو شح مادة السيلولويد، وهي الأوراق الشفافة التي تكون بكرة الفيلم الخام، والتي تتحول مجموعة الصور عليها إلى مشاهد متحركة على الشاشة. وعلى الرغم من كونها المادة الأكثر إنتاجًا في تلك الفترة، إلا أنها كانت تستخدم لصناعة البارود، وكانت الصناعات الحربية أولوية لدى دول أوروبا استعدادًا للحرب العالمية الأولى.

وبعد الحرب العالمية والأزمة التي خلفتها، انفتح الباب على مصراعيه لصناعة السينما في كافة أرجاء العالم، وتحديدًا في الدول المشاركة في الحرب. فنظرًا لآلام الشعوب وحاجة الجميع لما يخفف عنهم مصيبتهم التي عاشوها لمدة خمس سنوات، بالإضافة إلى قناعة كافة القوى العظمى والصغرى بعدم استعداد العالم لدفع فاتورة حرب عالمية أخرى، لأنه قد حان وقت السلم، السلم الذي يمنعنا من استخدام السلاح في ميادين المعركة. ولكنه لا ينفي وجود حرب داخلية ونفسية محفورة في العقول. باختصار، السلم لا ينفي الحرب الباردة التي بدأت قبل تاريخ تسجيلها وإعلانها الرسمي من أطرافها المعروفين تاريخياً بكثير. ونحن بحاجة لشيء يسلي الشعوب ويحفزهم ليستمروا كتروس في عجلة الإنتاج الصناعية التي نتبناها الآن. فكان هذا الشكل الجديد والعصري من الحرب، وفي الوقت ذاته يدفعهم لدفع الأموال لخزائننا دون اعتراض، بل وبسعادة وبابتسامة. ولا يوجد شيء يملك كل تلك المميزات ويعد مطلبًا جماهيريًا سوى السينما.

في هذه الفترة بدأ الغزو الأمريكي للصناعة كأنها كانت تستعد لهذه اللحظة أثناء الحرب. يكفينا القول إن يوم توقيع معاهدة فرساي في عام 1919، وصلت نسبة الأفلام الأمريكية المعروضة في أوروبا وآسيا وأفريقيا إلى 90%. وقاموا بتغيير حصة صناعة الأفلام الأوروبية في السوق الأمريكية والعالمية وإعطائهم حصة هامشية من سوق الولايات المتحدة وحصة صغيرة من أسواقها المحلية. مما ترتب عليه أن معظم الشركات الأوروبية الكبرى باعت فروعها الأجنبية وانسحبت من إنتاج الأفلام، وبفضل الحرب وما سبق، فرضت الولايات المتحدة نفسها على العالم كقوة الصناعة الأولى.

ثم جاءت الحرب العالمية الثانية لتعلن قيام عصر "سينما الحرب"، حيث تولى جميع القائمين على الصناعة آنذاك مهمة دعم البيت الأبيض والجيش ودفع الجمهور للانضمام للقوات العسكرية طوال مدة الحرب من خلال السينما وإنتاجاتها كما ذكرنا سابقاً. وبعد نجاحهم في تلك المهمة لم يتوقفوا، بل أدركوا أهمية هذا السلاح المعنوي والقومي الذي يعرض القدرات الجسدية والتخطيطية كذلك وطرق استخدام السلاح، كل هذا حتى يكسبوا حب وتعاطف العالم، بل ويكونوا هم أبطال القصة.

فلهذا السبب ظهر لنا "رامبو"، البطل الأمريكي مفتول العضلات الذي يقف منفردًا في وجه الأعداء والمجرمين، ويفوز دائمًا في النهاية، وهذا للتأكيد على انتصار الهوية الأمريكية في عقول المشاهدين. كما عملوا على تشويه صورة العدو في أفلام أخرى عن طريق تصديرهم للناس كحاقدين طامعين أغبياء، طامحين في النيل من المتوهج الأمريكي في كل زمان، أو مجموعة حمقى يتمركزون في بقعة نائية لا يبدو عليها أي شيء حضاري. وبالطبع، حقق "رامبو" الكثير من الأرباح عالميًا بسبب كل صفاته وتعلق الجمهور به، الجمهور الذي يصدق أسطورته ويحلم أن يصبح مثله في يومٍ ما.

لم تتوقف أمريكا عند هذا الحد، إنما استخدمت السينما لتزوير التاريخ كما كان الحال حين أنتجت أفلامًا توثق بها التفوق الأمريكي على فيتنام أثناء الحرب بين الطرفين. فحرب فيتنام تعتبر واحدة من أكثر الحروب إثارة للجدل في التاريخ الأمريكي، ومن الصعب القول إن هناك "تفوقًا أمريكيًا". بينما كانت الولايات المتحدة تمتلك قوة عسكرية كبيرة وقدرة تكنولوجية متقدمة، إلا أن الحرب لم تسر كما كان مخططًا لها، ولهذا لاقت تلك الأفلام الكثير من الاعتراضات العالمية والمحلية. ومؤخراً، تحارب السينما لأغراض أخرى غير القوات المسلحة، بل من أجل الأفكار والتوجهات المجتمعية والسياسية الدفينة. وعلى الرغم من الهجوم الهائل على ذلك، إلا أن الداعمين كثيرون، ويبدو أنهم أقوى بكثير من موجات المعارضة، وتلك الحرب في أوجها الآن، ولا يمكن تبين أو توقع نتيجتها حتى الآن.

السينما الأمريكية دعمت الدولة بكافة الأشكال طوال تاريخها، وساندت العجلة الاقتصادية وأثرت في الثقافة الشعبية والصورة الذهنية للبلاد بكافة السبل الممكنة. وعلى الرغم من الهجوم عليها في بعض الأحيان بسبب توجهاتها الجامحة أو أكاذيبها في بعض الأحيان، إلا أنها كانت وستظل إسماً وصفه الأمثل "القوة الناعمة" 

ليس فقط وقت الحرب الباردة، إنما كانت وما زالت أمريكا تروج لنفسها على أنها أرض الأحلام والفرص . لكن السؤال: هل ما زالت أمريكا هي أرض الأحلام؟ في وجهة نظري: لا، فأرض الأحلام هي أرض تشهد تطورًا مستمرًا لتنبت فرصًا فتتحول إلى حلم للجميع حول العالم. وأعتقد أن السعودية قد احتلت هذه المكانة في الفترة الأخيرة، وهذا الكلام خالٍ من أي انحياز وإنما بالحقائق. فالسعودية تقدم نهضة في شتى المجالات، سواء في الإنتاج السينمائي وتطور الصناعة أو في كرة القدم، وليس فقط في دوري روشن، بل إن استضافة كأس العالم 2034 هو اعتراف من العالم أجمع بما وصلت إليه السعودية من مكانة جعلتها ببساطة أرض الأحلام.


لهذا نحتفل هذا الشهر باليوم الوطني السعودي لنذكر ونفتخر دائمًا بحجم الإنجاز الذي وصلنا له، ونقدم الشكر للملك سلمان على جهوده العظيمة.