في السنوات الثلاث الأخيرة، شهدت صناعة الأفلام في المملكة حِراكًا كبيرًا أبهر المنطقة بالتطور السريع الذي وصل إليه هذا القطاع. لكن ما كان لهذا أن يحصل لولا وجود عنصرين رئيسيين، هما، الأفراد أصحاب الشغف بهذه الصناعة، و الالتفاتة الرسمية لهذا القطاع وإيمان القيادات العليا بأهميته. فلو نظرنا للإرث الفيلمي السعودي، سنجد تجربة مثيرة للإهتمام سنجد رحلة مليئة بالتحديات التي واجهها الصناع الأوائل حتى تحولت السينما في المملكة من "سينما الأحواش" إلى ما وصلنا مشاركة مشرفة في مهرجان كان السينمائي الدولي. لكن من هم هؤلاء الصناع؟ وكيف كانت البداية؟ وما التحديات التي واجهوها؟
كانت البداية في فترة الستينيات، وعلى الرغم من أن السينما لم تكن متاحة للجميع في المجتمع السعودي كما هو الحال في كثير من المجتمعات الأخرى. إلا أن التحدي الحقيقي لم يكن في وجود منصات للمشاهدة بل كان التحدي هو المشاركة الفاعلة والتواجد ضمن المشهد السينمائي في العالم والتواجد على خارطة هذه الصناعة. والصعوبة الحقيقية التي واجهت هذا القطاع في المملكة كانت تدور حول توفر البنية التحتية للصناعة بشكل عام. بالاضافة الى كون العروض السينمائية التي كانت تتم في المملكة اقتصرت على عرض لأفلام أجنبية داخل أندية ثقافية ورياضية أو شركات كبرى مثل شركة أرامكو. وكان الهدف من هذه العروض هو خلق تجربة ترفيهية لموظفي تلك الشركات الأجانب وأسرهم، ولم يغيب الموظفين السعوديين من حضور تلك العروض بطبيعة الحال، مما خلق تفاعلًا بين الجمهور والسينما، لكنه بقي محدودًا. على الرغم من اهتمام الصحف والمجلات بالسينما، إذ نقلت أخبار المهرجانات العالمية وتوقيتات عروض أندية النفط، مما أثار شغفًا لدى المجتمع السعودي تجاه السينما، فتحولت إلى مطلب جماهيري، مما مهَّد لظهور "سينما الأحواش" في السبعينيات.
إذا وضعنا عنوانًا مناسبًا لفترة السبعينيات، فسيكون "مرحلة الاجتهادات الفردية"؛ حيث بدأت صناعة الأفلام بشكل غير رسمي و بمبادرات فردية. قامت شركة أرامكو بالعمل على عدد من الأفلام التي تروي قصصًا عن التراث السعودي، مثل "الحياة على رمال متحركة" و"السعودية: الأرض والشعب"، وجعلت من تلك الأفلام جزءًا من رسالتها لتعريف العاملين الأجانب بثقافة المجتمع السعودي. فكانت وسيلتها لتعزيز التفاهم بين العاملين الأجانب والمجتمع السعودي. ولم يقف دور هذه الأفلام عند هذا الحد، بل كانت تُعرض في مهرجانات عالمية، مثل مهرجان الأفلام الوثائقية الدولية، مما جعلها نافذة تطل منها المملكة العربية السعودية على المجتمع الدولي. لم تسعَ هذه الأفلام لتحقيق أرباح، إنما كانت تهدف لحمل التراث السعودي للعالم. بالتوازي، كانت هناك محاولات فردية من رواد السينما الأوائل، مثل فؤاد جمجوم وسعد خضر ومحمد حمزة وصالح العلياني. ولم تتوقف المحاولات عند الرواد فحسب، بل كان للجمهور دور مهم في هذه الفترة؛ ففي ظل غياب دور العرض الرسمية، لجأ الجمهور إلى "سينما الأحواش".
تُعتبر "سينما الأحواش" جزءًا من التراث السينمائي السعودي، فكانت أشبه بالعروض الشعبية التي تُنظَّم في فناءات المنازل (الأحواش)، حيث يجتمع الناس لمشاهدة الأفلام التي تعرضها أجهزة العرض البسيطة، سواء أفلام مصرية أو أفلام عالمية مشهورة. وتُعتبر "سينما الأحواش" هي الشكل البدائي الذي ربط الناس بهذا الفن، لكن رغم بدائيتها، إلا أنها استطاعت أن تصل لقاعدة جماهيرية كبيرة؛ فكان سعر التذكرة رمزيًّا، وهذا ما ساهم في نشر هذا الفن على نطاق واسع وبدأ يتشكل وعي الشارع السعودي تجاه السينما، على الرغم من التحديات الضخمة التي واجهتها هذه المرحلة، فكانت هذه العروض غير رسمية، لكن ظلت المحاولات قائمة .
هناك عدد من الأسماء التي وضعت علامة فارقة في حقبة الستينيات والسبعينيات مثل فؤاد جمجوم وسعد خضر واللذان يعتبران من الممثلين الأوائل في الدراما السعودية، فقد اشتهر كلاهما بتقديم قضايا المجتمع السعودي، لكن كلٌّ منهما بطابع مختلف؛ فتميّز فؤاد جمجوم بأسلوبه الساخر في تناول مشاكل المجتمع بشكل يعكس الكوميديا الشعبية السعودية مما جعله قريبًا من الجمهور السعودي، فقد أرسى أسسًا للكوميديا السعودية التي أثّرت لاحقًا في الأجيال الفنية الجديدة، وعلى النقيض، جاء سعد خضر فقد اشتهر بتجسيده الدرامي لواقع المجتمع السعودي، حيث قدم عدة أعمال ركزت على قضايا اجتماعية مهمة، مثل" موعد مع المجهول " و "عيون ترقب الزمن" . لم يقتصر دور الثنائي على التمثيل فقط، إنما شارك جمجوم في اكتشاف العديد من المواهب الشابة التي ظهرت بقوة في المشهد السينمائي السعودي مثل "راشد الشمراني"، أما خضر فقد أسس شركة إنتاج خاصة به، وسعى من خلالها إلى تقديم محتوى يعكس هوية وثقافة المملكة. وظلت السينما السعودية في تطور حتى أتت رياح الثمانينيات بما لم تشتهيه سفن السينما.
شهدت القطاع الفني السعودي فترة معقدة فيها الكثير من التحديات والكثير من الفرص المهدرة؛ فكانت الحراك "الصحوي" قد بدأ في أواخر السبعينيات وازداد سيطرته على المجتمع في الثمانينيات، وكان الفكر "الصحوي" فكراً متشدداً يعمل بأسلوب الوصاية وتغييب التفكير بالأمور الحياتية البسيطة وكان هذا الحراك قامعاً للأنشطة الثقافية والفنية والسينمائية بالتحديد، مما أدى الى حالة من التقييد لكل الإنتاجات الفيلمية وعرض الأفلام. وبطبيعة الحال شكل الحراك ضغطًا كبيرًا على الفنانين والمبدعين في المملكة. لكن، كان هناك عدد من المبدعين الذين كان الشغف والتحدي ه، وقودهم تجاه صناعة الأفلام، فلم يتوقفوا فقط على ما وصلت له السينما السعودية في تلك الفترة، إنما ذهبوا بها أبعد من ذلك؛ فعلى مدار السنوات الأولى منذ حقبة الستينيات، لم يعرف العالم السينما السعودية، حتى ظهر الجيل الجديد الذي قرر دراسة السينما ليتمكنوا من تسليط الضوء على القضايا المجتمعية مثل سعد الفريح وعبد الله المحيسن.
سعد الفريح وعبد الله المحيسن يمثلان الهوية الثقافية للمجتمع السعودي في الثمانينيات، فهم أصحاب التحديات الكبرى. فتأثير الفريح كان مزيجًا بين الإعلام والسينما، فكان واحدًا من أهم الشخصيات المؤثرة في الإعلام السعودي خلال تلك الفترة، حيث عمل في وزارة الإعلام السعودية لفترة طويلة، واهتم بتطوير المحتوى المحلي وتسليط الضوء على قضايا اجتماعية وثقافية، وساهم في إنتاج برامج ثقافية وأفلام وثائقية قصيرة كانت تهدف إلى توثيق جوانب من الحياة السعودية وإبراز الهوية الثقافية للمجتمع. فكان هدفه الدائم هو التوعية والحفاظ على التراث وتوثيق القضايا المحلية بأسلوب يليق بالذائقة السعودية. أما عبد الله المحيسن، فكان من أوائل المخرجين السعوديين الذين استطاعوا الوصول إلى جمهور عالمي من خلال أفلامه الوثائقية. وكانت البداية عام 1983، حين أطلق فيلمه الوثائقي الشهير "اغتيال مدينة"، الذي تناول الحرب الأهلية اللبنانية بشكل أقرب إلى الواقع، فنجح في إثارة اهتمام المجتمع السينمائي الدولي، وحاز على تقدير وجوائز في مهرجانات دولية بارزة، مثل مهرجان القاهرة السينمائي. فكان هدفه إيصال صوت السعودية إلى العالم بطريقة فنية محترفة. وفي نهاية الثمانينيات، وعلى الرغم من تحديات "الصحوة" وقيودها على الأنشطة الفنية، إلا أن السينما السعودية استطاعت أن تقدم أعمالًا مميزة حصدت العديد من الجوائز، مثل "تحت الشمس" و"حجاج بغير موعد". كما برزت "السهرات التلفزيونية" التي قدمت العديد من القصص الاجتماعية ذات المغزى، وكان أبطالها محمد الطويان، ليلى السلمان، مريم الغامدي، وخالد سامي.
تُعتبر التسعينيات استكمالاً للحراك الفني السعودي بالرغم من استمرار التحديات والعقبات. فلم يزل تأثير "الصحوة" لكن الشغوفين بصناعة المشهد الفني السعودي كانوا مستمرين بتقديم أعمال أكثر نضجاً حيث استمرت السهرات التلفزيونية، وظهرت بوادر الإنتاج السعودي. وعلى الرغم من أن البنية التحتية لم تكن مكتملة، إلا أن السينمائيين السعوديين انطلقوا نحو العمل الفردي، مستثمرين في الأفلام القصيرة والوثائقية، حيث كان تركيزهم منصبًّا على تقديم تجارب اجتماعية ذات طابع إنساني. وظهر عدد من المواهب السعودية مثل"ممدوح سالم"، الذي قدم العديد من الأفلام القصيرة التي نالت تقديرًا في المهرجانات الدولية، وقدم ممدوح سالم رؤية واقعية عن قضايا الشباب السعودي والصعوبات الاجتماعية التي يواجهونها من خلال فيلمه "خلف الأسوار" الذي حاز على إشادة النقاد في مهرجانات مثل مهرجان القاهرة السينمائي، ومهرجان قرطاج السينمائي، ومهرجان الخليج السينمائي. وبجانب السينما، كان هناك حضور قوي للسهرات التلفزيونية، وكان أبطال هذه الفترة هم فؤاد بخش وعبد الإله السناني، اللذان قدما تجارب درامية جسدت جوانب مختلفة من الحياة السعودية. ولم تكن هذه السهرات مجرد عروض ترفيهية، بل كانت منصة لعرض قضايا تهم المجتمع السعودي. كما كان للمسلسلات نصيب أيضًا، حيث سارت على خطى فؤاد جمجوم وتم إنتاج مسلسلات مثل "خلك معي" و "جاري يا حمودة " و "طاش ما طاش" ، وقد ناقشت هذه المسلسلات العديد من قضايا المجتمع بشكل كوميدي ساخر، مما ساهم في تطوير المشهد الدرامي التلفزيوني السعودي.
تُعتبر الألفية الجديدة انتصارًا لمجهودات الرواد وتكليلاً لها؛ فقد جاءت معلنةً بزوغ نجم صناعة الأفلام الهادفة لإيصال قصص سعودية أصيلة. انتصار السينما رغم تحديات الصحوة ، وولّدت جيلاً جديدًا من الصناع، أبرزهم المخرجة هيفاء المنصور، التي تُعد من الشخصيات المؤثرة في المشهد السينمائي السعودي، حيث قدمت في البداية عددًا من الأفلام القصيرة الهامة مثل "من؟" و"نساء بلا ظل". وقد اهتمت بقضايا المرأة، مما جعلها مصدر إلهام للمخرجات السعوديات الشابات.
كان هناك العديد من المعوقات أمام الإنتاج السينمائي في السعودية، لكن مع انتشار منصات العرض التقليدية و المنصات الافتراضية على شبكة الإنترنت مثل يوتيوب وغيرها، وجد صناع الأفلام السعوديون فرصة جديدة للوصول إلى الجمهور، حيث استغلوا هذه المنصات لبث أعمالهم المستقلة دون الاعتماد على دور العرض التقليدية. ومن بين الأسماء البارزة التي ظهرت في هذه الفترة كان المخرج علي الكلثمي، الذي أطلق قناة "تلفاز 11" على منصة يوتيوب، مما ساهم في إعطاء الثقة للهواة والمحبين لهذا الفن وزيادة إنتاج الأفلام القصيرة والوثائقية، والتي نالت على إعجاب الناس حتى وصلت الى المهرجانات العربية. وتميزت هذه الأفلام بطابع بسيط وأصيل جعل منه مميزاً. أصبح هناك تقدير محلي للسينما السعودية من خلال مهرجان الأفلام السعودية، الذي قدّم فرصة للمخرجين الشباب لعرض أفلامهم القصيرة والوثائقية والتواصل مع مجتمع السينمائيين والنقاد العالميين. ولم تتوقف المواهب السعودية عند هذا الحد، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، مثل خالد عبد الرحيم ، الذي يُعد من أبرز الممثلين السعوديين الذين ظهروا في هوليوود، شارك خالد عبد الرحيم في العديد من الأعمال العالمية، لكن يعتبر فيلم The Kingdom الذي صدر عام 2007 هو نقطة انطلاقه الحقيقية. بعد نجاحه في هذا الفيلم، بدأ يتلقى المزيد من العروض، مما أظهر للعالم أن هناك مواهب سعودية قادرة على المنافسة في السينما العالمية. واستمر التوسع السينمائي السعودي حتى صدر أول فيلم روائي سعودي طويل بعنوان "كيف الحال؟" في عام 2006 من إنتاج شركة "روتانا" وإخراج "إيزادور مسلم".وعلى الرغم من أن التجربة لم تحقق نجاحًا كبيرًا، إلا أنها كانت خطوة مهمة ومهدت الطريق لتجارب سينمائية أخرى.
مرت الصناعة السينمائية في السعودية بتحديات كبيرة، مما جعل تجربتها ملهمة وأنتجت إرثًا سينمائيًا هامًا. لم يكن بإمكان هذه الصناعة التغلب على تلك التحديات لولا الجهود الكبيرة التي بذلتها الحكومة لتوفير بيئة ثقافية خصبة. وقد لعب العديد من المؤثرين دورًا حيويًا في هذا الحراك، بدءًا من الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز آل سعود وصولًا إلى الملك محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود. على مدار هذه الرحلة، كان لهم الفضل في تطوير السينما السعودية وتعزيز حضورها العالمي. لذلك، من الضروري أن نقدم الشكر والثناء للجهود الحكومية ودعمها المتواصل للسينما.