الفيلم هو عمل إبداعي هدفه توصيل فكرة للجمهور، لكن في نهاية المطاف، إن لم يحقق هذا العمل ربحًا، فإنه يُصنَّف " فاشل تجارياً "، فالمنتج لن يعيد أمواله مقابل تصفيق الجمهور أو إعجاب النقاد، ولن يحقق الربح من خلال نبل الرسالة التي تركها في نفوس الجمهور فقط، إنما هو مستثمر يريد أن يحصل على عائد مالي من هذا الاستثمار. لكن البعض يرى بأن هذه النظرة قاصرة ولا يمكن أن تختزل بالجانب المالي فقط، لذا دعوني أفصل قليلاً في بعض الجوانب التي قد تساعدنا على فهم المعايير التي ممكن تقييم الفيلم من خلالها.
للفيلم أنواع ومدارس عديدة، لكل منها طابع مختلف كالاختلاف بين هوليوود والمدرسة الفرنسية قديمًا، الأمر الذي استمر إلى يومنا هذا. فانقسمت الأفلام إلى تجارية وفنية، لكل منهما أسلوبه والموضوعات التي يناقشها، والجمهور المستهدف، والميزانية، والنجاح المتوقع منه سواء على المستوى النقدى أو على مستوى شباك التذاكر. على سبيل المثال، فيلم "Paranormal Activity" بلغت ميزانيته 15,000 دولار فقط، وحقق إيرادات بلغت 193 مليون دولار. وعلى الجانب الآخر، فيلم مثل "Avengers: Endgame" بلغت ميزانيته 356 مليون دولار، وعلى مستوى الإيرادات حقق 2.798 مليار دولار. وفيلم آخر مثل "Moonlight" بلغت ميزانيته حوالي 4 ملايين دولار، وحقق إيرادات وصلت لـ 65 مليون دولار، لكنه حقق أكثر من 80 جائزة من أصل 300 ترشيح .. والآن، بالنظر للأفلام الثلاث، أيهم حقق نجاحًا أكبر؟ فيلم "Paranormal Activity" يعتبر الأنجح من حيث نسبة العائد من الاستثمار، نظرًا للفارق الهائل بين ميزانيته الصغيرة وإيراداته الكبيرة. أما "Avengers: Endgame" فهو ثاني أكثر فيلم تحقيقًا للإيرادات في التاريخ، لكن كلا الفيلمين لم يحصل على عدد الجوائز التي حصل عليها "Moonlight" . إذاً، أيهما أنجح؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نعرف تصنيف كل فيلم من هذه الأفلام.
فيلم "Moonlight" ينتمي إلى الأفلام الفنية، التي تهتم بموضوعات اجتماعية ونفسية عميقة. تعطي هذه الأفلام الأولوية لتطوير الشخصيات وتأثير الحبكة على هذه الشخصيات، كرحلة شخصية تشوكون في "Moonlight". هذه الأفلام لا تخضع للتقاليد السائدة سواء في السرد أو الإيقاع. تركز بشكل أساسي على التعبير الفني، وتستخدم كل الأدوات لخدمة هذا الهدف، ومن أهم هذه الأدوات هو التصوير. تميل هذه الأفلام غالبًا إلى التصوير التجريبي، مما يزيد من تفاعل الجمهور معها، لكن ليس أي جمهور؛ بل تستهدف جمهورًا محددًا من محبي الأفلام والمهتمين بالسينما، الذين يقدرون هذا السرد التجريبي. لذلك، لن تجد لهذه الأفلام قاعدة جماهيرية عريضة، مما يجعل ميزانيتها منخفضة وغالبًا ما تُنتج بشكل مستقل أو بمشاركة محدودة من الاستوديوهات. لا تستهدف هذه الأفلام نجاحًا جماهيريًا، بل تسعى إلى التقدير النقدي فقط. لذا، تُعرض غالبًا في دور عرض محدودة أو في مهرجانات الأفلام مثل كان، ساندانس، أو البندقية. وتعتبر فرنسا من أكثر الدول اهتمامًا بهذا النوع من الأفلام، وهذا ليس بجديد على فرنسا؛ هكذا كانت منذ بداية ظهور السينما.
أما "Avengers: Endgame" فهو على النقيض تمامًا. فيلم تجاري مصمم لجذب جمهور واسع، بما في ذلك العائلات. تركز هذه الأفلام على الترفيه والاستخدام المبهر للمؤثرات البصرية والتصميم المتقن لمشاهد الأكشن، كما حدث في مشهد المواجهة الأخير بين ثانوس والمنتقمون. فتقدم هذه الأفلام مغامرة للمشاهد، سواء كانت رومانسية، أكشن، أو حتى كوميدية. فالمهم أن تحقق متعة لفئة كبيرة من الجمهور في أماكن عدة، فيكون توزيع هذه الأفلام على نطاق واسع لتعود بعائد مادي كبير يغطي الميزانية الكبيرة لهذه الأفلام. ونادرًا ما تخرج هذه الأفلام عن المألوف، إنما تقدم سردًا تقليديًا وإيقاعًا سريعًا، والهدف الرئيسي لصناعها هو تحقيق أرباح.
مع الاختلاف الواضح بين الأفلام التجارية والفنية، إلا أنهم يواجهون نفس التحدي، وهو كيفية استغلال الميزانية المخصصة للفيلم. سواء الميزانيات الصغيرة للأفلام الفنية لتخرج بأعلى جودة ممكنة، أو الميزانيات الضخمة للأفلام التجارية لتحقيق أكبر قدر ممكن من الإيرادات. لهذا، وجب وجود نظام، وهذا ما قدمه إينس.
بدأ إينس مشواره كممثل، ثم تنقل بين أدوار المخرج والمنتج وكاتب السيناريو، مما أكسبه فهمًا عميقًا لتفاصيل كل قسم في صناعة الأفلام. وفي عام 1912، أسس استوديو "إنسفيل" بميزانية 35 ألف دولار، وهو استوديو ضم مواقع تصوير متنوعة، مثل قرية يابانية ومنطقة حروب قديمة، وأنتج العلف ومنتجات الألبان لإطعام العاملين. هذا النظام الجديد في إدارة الإنتاج السينمائي، المعروف بـ"نظام الوحدة"، أصبح الأساس الذي بُنيت عليه استوديوهات هوليوود الحالية.
من خلال هذا النظام، وُلد مفهوم "التفريغ" السينمائي الذي يعرفه الجميع اليوم. حيث يقوم مدير الإنتاج بتقسيم السيناريو إلى كشوف تفصيلية تشمل المعدات، الممثلين، الأجور، الملابس، والديكورات. هذه العملية تتم عبر مراحل متداخلة تهدف إلى تنظيم كل جوانب الإنتاج.
أولاً، يبدأ التفريغ بتقسيم السيناريو لتحديد عدد الصفحات التي سيتم تصويرها يوميًا، والذي قد يتراوح من صفحة واحدة في الأفلام ذات الميزانية الضخمة إلى 8 صفحات في الأفلام الصغيرة. ثم يأتي دور التخطيط للمشاهد الصعبة، وخاصة مشاهد الحركة التي قد تستغرق وقتًا أطول بسبب تعقيدها. بعد ذلك، تُحسب أجور الممثلين بناءً على عدد أيام عملهم، حيث يتم تخصيص الأجر وفقًا لظهورهم في السيناريو.
ثم تُوضع ميزانية خاصة للمركبات والمخلوقات حسب نوع الفيلم. فمثلًا، الأفلام مثل "السرعة والغضب" تحتاج إلى ميزانية ضخمة للسيارات، بينما الأفلام مثل "توجو" تعتمد بشكل أكبر على تكلفة تدريب الحيوانات. بعد ذلك، يتم التخطيط للمشاهد التي تتطلب مؤثرات خاصة أو مخاطر، حيث تُحدد الميزانية بناءً على عدد الأيام المطلوبة للتصوير وفريق العمل اللازم. في النهاية، تُحسب رواتب الطاقم الفني بأكمله بناءً على عدد الأيام اللازمة للتصوير، بدءًا من المخرجين وصولًا إلى المصورين والفنيين.
وفي ختام عملية التخطيط، من الحكمة دائمًا وضع ميزانية احتياطية تعادل حوالي 30% للطوارئ مثل الأمراض أو الحاجة إلى معدات إضافية
وبناءً على ما ذكرت، فميزانية الفيلم ليست معيارًا لنجاحه، إنما الاستغلال الجيد للميزانية. فكثيرًا من الصناع أهدروا ميزانيات كبيرةً وقدّموا أعمالًا لا ترتقي لذوق المشاهد، مثل فيلم "The Adventures of Pluto Nash" الذي بلغت ميزانيته حوالي 100 مليون دولار، ولم يحقق سوى 7 مليون دولار. وعلى الجانب الآخر، بعضهم صنع تحفًا فنية باستخدام ميزانية صغيرة. لهذا، يجب على كل صانع أن يحدد من البداية ما هدفه من العمل الذي يقدمه، وكيف سيستخدم الميزانية لتحقيق هذا الهدف.